الجمعة، أغسطس ١٠، ٢٠٠٧

في إعادة بناء التعليم .. لم ينجح أحد

لماذا يفشل الخبراء الأذكياء ؟ ..
في إعادة بناء التعلـيم .. لم ينجح أحـد !
بـداية، يجب أن نتّفق على بعض الحقائق :
· نحن في زمن تغيير جـذري متسارع، ينقلنا إلى واقع جديد، لا تفيد خبراتنا السـابقة في التعامل معه .
· الحلول الجزئية المنفصلة، لا تصلح إلاّ في حالات الثبات النسبي، و استقرار الأسس التي تقوم عليها الحياة .
· في حالة التغيير الشامل، لا بد من التعرّف على مؤشرات ذلك التغيير الأساسية، متنامية التأثير .. تمهيدا للتفكير في إرساء إطار رؤية مستقبلية شاملة تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط .
· في عمليات إعادة البناء ، نعتمد على الرؤية المستقبلية الشاملة، في ضمان التوافق بين مختلف العمليات في مختلف المجالات .. فلا يجوز ـ مثلا ـ أن نحاول إعادة بناء التعليم، دون أن يحدث هذا بشكل متزامن مع إعادة بناء الاقتصاد، و العمل، و الممارسة السياسية .
· لن تفيد الخبرة، و لن يفيد الذكاء، ما لم يتم توظيفهما في إطار المنهـج الذي يسمح بتكوين الرؤية المستقبلية الشاملة .
حقائق مسـاعدة :
· يفيدنا أن ننظر إلى التاريخ باعتباره تتابعا لمراحل كبرى، تحددها طبيعة التكنولوجيات الأساسية، التي تعتمد عليها العمالة السائدة، و ليس كتتابع ممالك و إمبراطوريات، و حروب و غزوات .
· مثال ذلك، الحياة في العصر الذي كانت فيه الزراعة هي العمالة السائدة ، في أي مكان على الأرض.. على مدى عشرة آلاف سنة، سادت نفس الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و نفس منظومة القيم الخاصّة .. مع كل الاختلاف بين الجنسيات و الأعراق .. و مع تتابع و تباين الحضارات الإقليمية .
· في انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، يفيدنا أن نستفيد من دراسة طبيعة التحولات التي حدثت، عند الانتقال من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة .
التعليم .. و الفيل الشهير !
خير مثال على التخبّط، و هزيمة الذكاء و الخبرة، موضوع التعليم في مصر .. كلما تابعت حوارات المختصين و المجتهدين، على شاشات التلفزيون أو في الصحف، أو حتّى في المؤتمرات المتخصصة، تذكرت قصة الفيل و المكفوفين الستة ..
و القصّة ـ لمن لا يعرفها ـ تقول أن ستّة من المكفوفين مضوا في الغابة، فصادفوا فيلا لأول مرّة في حياتهم . و قفوا حوله، و حاول كل واحد منهم أن يصفه من واقع الجزء القريب منه .. الذي تحسس خرطومه، قال أنه يشبه الثعبان .. و الذي أمسك ساقه قال أنه عمود ضخم .. و الذي تحسس أذنه، قال أنه رقيق مفلطح .. إلى آخر القصة . و العبرة غير خافية " عند النظر إلى المستجد، لا تنفع النظرة الجزئية " .
و أحدث تجربة لي كانت مع حلقة في برنامج "البيت بيتك" بالقناة المصرية الثانية، أدارها الأستاذ محمود سعد، و شارك فيها عدد من الخبراء، مسئولين و غير مسئولين .. في نهاية الحلقة بدا محمود سعد حائرا، لم يقتنع ـ مثلي ـ بشيء من الذي قيل، فناشد كل من شاهد البرنامج من الكتاب و المفكرين أن يسهموا بجهدهم في محاولة الوصول إلى كلام معقول مقنع ! ..
بفضل توجيهات السيد الرئيس !
أطمئن الأخ محمود : لقد تحدثت بالتفصيل عن التعليم في مجتمع المعلومات، و عن خصائص إنسان عصر المعلومات، و كيف تختلف عن خصائص إنسان عصر الصناعة، و التي اختلفت عن خصائص إنسان عصر الزراعة .. تحدثت في هذا على القناة المصرية الأولى، عام 1995، في وقت يعتبر جيدا ـ بعد نشرة التاسعة مساء ـ و على مدى عشرات الحلقات !.. ومع ذلك لم يحاول أهل الخبرة و الذكاء، من المسئولين في وزارة التعليم، و من هم أعلى منهم في المستوى، أن يفهموا أو أن يستفيدوا ..
كل الذي حدث: هو أنني اكتسبت عداوة الوزير، الذي اشتهر بترديده عبارة " بفضل توجيهات السيد الرئيس "، و بادعاءاته حول " النهضة التعليمية في مصر التي يتحدّث عنها الخبراء العالميين، من أمريكا و غيرها (!) ..
و النتيجة : زادت أحوال التعليم سوءا، حتّى وصلنا إلى الوضع المشين الحالي، الذي ستظهر مخاطره في العقود القادمة .
أقول للأخ محمود : إعادة بناء التعليم، بحيث يساهم في بناء إنسان مجتمع المعلومات، لا يمكن أن يتم بمعزل عن رؤية مستقبلية عامة، تنبع منها الأولويات و فق الإمكانات، و تتم بالتنسيق ـ على سبيل المثال ـ مع عمليات إعادة البناء التالية :
· إعادة بناء الإعلام الفعّال، الذي يلتزم بالمصداقية، و الذي يحمل رسالة الشعب إلى الحكومة، في نفس الوقت الذي يحمل فيه رسالة الحكومة إلى الشعب .
· و إعادة بناء الممارسة السياسية، بعيدا عن التشوهات و الأكاذيب الحالية، لكي نحقق الديموقراطية القائمة على المشاركة الفعلية للشعب، في القواعد، و دون توكيل أو تمثيل .
· و إعادة بناء نشاط المجتمع المدني، باعتباره السند الحقيقي للنمو و التصحيح، و ليس الخصم الذي يجري التضييق عليه، بكل الوسائل الممكنة .
· و إعادة بناء الاقتصاد، على أساس فهم الطبيعة الجديدة لاقتصاد مجتمع المعلومات، و على أساس فهم الاختلاف الجذري بين اقتصاد السلع، و اقتصاد المعلومات، و الشكل الجديد لقانون الملكية .. و على أساس السعي لجبر عمليات الانفصال التي أحدثها عصر الصناعة : بين العاملين و أصحاب العمل، و بين المستهلكين و المنتجين، و بين المدخرين و المستثمرين، و أخيرا بين الإنسان و الطبيعة .
المخترعون يمتنعون !
و ما أدعو إليه، ليس خوضا في المجهول، أو تنبؤا من تنبؤات نوستراداموس، أو هو اختراعا من اختراعات كونداليزا رايس من نمط " الفوضى الخلاّقة " ..أنا أدعو إلى جهد من التفكير العلمي الجاد المنظّم، مع قدرة على فهم الأشياء من خلال التفكير الناقد، الذي يهتم بمراجعة الافتراضات و السياقات، و استعداد لممارسة التفكير الابتكاري الذي يخلصّنا من سيطرة الفكر التقليدي على عقولنا، من أجل :
· أن نعرف طبيعة الحياة التي يمضي إليها البشر، في ظل النظام الجديد .. نظام مجتمع المعلومات .
· أن نعرف طبيعة الإنسان المنسجم مع المجتمع الجديد، المستفيد منه، المساهم في تطويره و تنميته، حتّى نختار نظم الحياة و التعليم و الحكم و التفكير التي تساعد على ذلك .
· أن تكون لدينا الشجاعة للتخلّي عن كل ما هو متناقض مع صالح الحياة التي نختارها، من مخلّفات الماضي المنصرم .
هذا هو الحد الأدنى من الجهد المطلوب، حتى نصل إلى الذكاء الإيجابي، و الخبرة المعاصرة .. ممّا يساعدنا على معرفة ما هو مطلوب لكي نصل إلى تعليم مجتمع المعلومات، و ليس إلى إحياء تعليم مجتمع الصناعة، استجابة لنوستالجيا قدامى رجال التعليم ..
و إلى حديث تفصيلي عن تعليم مجتمع المعلومات ـ لمن له صبر المتابعة ـ في مقال قادم
.

ليست هناك تعليقات: