الخميس، سبتمبر ٢٣، ٢٠١٠

محاولة للخروج من عنق الزجاجة


ما تفتقده حياتنا الفكرية و السياسية :
رؤية مسـتقبلية شـاملة لمصر
تقود إلى اسـتراتيجيات متكاملة لإعـادة البنـاء
في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
مستفيدة من التحولات الكبرى في الحياة البشرية



مشكلتنا الكبرى في مصر حاليا :
* لماذا نبدو و كأننا ندر حول أنفسنا، دون أن نتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام ؟
* لماذا تغيب الرؤية المستقبلية الشاملة عن برامج جميع الأحزاب المصرية، و بصفة خاصة عن الحزب الوطني و أمانة سياساته .. و أيضا عن أصحاب النشاط السياسي من الجماعات و الأفراد ؟
* لماذا يتصوّر الجميع أن غاية المراد هو مواجهة السلبيات الراهنة، و تدارك حالة الهبوط المتواصل، و السعي للوصول إلى نقطة الصفر ؟
* لماذا لا نسعى إلى إرساء رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تكون هي مرجعيتنا المعاصرة ؟

حقائق أساسية :
· منذ منتصف القرن الماضي، بدأ تدافع ثورة المعلومات، التي تقود إلى سيادة مجتمع المعلومات في حياة البشر، الذي يقوم على أسس جديدة في جميع مجالات حياة البشر .
· دخول البشرية إلى مجتمع المعلومات، ظهر على شكل تغيرات جذرية متسارعة كبرى، أثارت الكثير من الحيرة و الخلط و الارتباك .
· فهم طبيعة هذه التغيرات، و أثرها على حياة البشر، يضع حدّا لتلك الحيرة و ذلك الارتباك، و يؤكّد لنا أن ما نحتاجه يتجاوز التعديل و التوفيق و الإصلاح، إلى ضرورة القيام بعمليات إعادة بناء شاملة لجميع نواحي حياتنا، وفقا لفهمنا الواضح لطبيعة التحوّل الكبير الذي نعيشه .
· خير مرجع لفهم الحاضر و المستقبل، هو العودة إلى تأمّل التاريخ .. تاريخ تحوّل عظيم آخر مرّت به البشرية، بانتقالها من عصر الزراعة الذي امتد إلى عشرة آلاف سنة، إلى عصر الصناعة في أعقاب اختراع الآلة البخارية .
· الاستفادة من دراسة مرحلة التحوّل من الزراعة إلى الصناعة، تفيدنا في فهم أثر التكنولوجيات الابتكارية الكبرى على حياة البشر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. بل و أثرها على العادات و منظومة القيم و الأخلاق .
· هذه الدراسة تساعدنا على إرساء المنهج العلمي الذي نعتمد عليه، في فهم طبيعة التغيرات الكبرى التي نمرّ بها، تمهيدا لرسم إطار الرؤية المستقبلية الشاملة، التي تحقق الانسجام و التوافق المطلوبين عند التصدّي لعمليات إعادة البناء الضرورية، في مختلف مجالات الحياة .
ركائز المنهج العلمي المطلوب :
المنهج العلمي الذي نعتمد عليه في فهم طبيعة و أبعاد مجتمع المعلومات، و التغيرات التي تطرأ على مختلف جوانب النشاط البشري، يوجب الاعتماد على نمطين ضروريين في التفكير، في حالة التغيرات الجذرية الكبرى، كالتي يمرّ بها البشر حاليا .

أوّلا ـ التفكير الناقـد :
دون الدخول في تفاصيل التفكير الناقد، و أصوله، يكفي القول بأنه التفكير الضروري لمواجهة التغيرات الكبرى، و الذي يتيح لنا أن نمضي على أرض صلبة، في مجاهل الواقع الجديد علينا . وهو التفكير الذي يتيح لنا أن الاختبار الدائم للافتراضات التي يقوم عليها تفكيرنا، و التعرّف على السياق الذي خرجت منه، لنعرف ما إذا كان ذلك السياق يتّفق مع سياق الحياة الجديدة التي نمضي إليها . و من مقوّماته :
· التعرّف على الافتراضات و تحدّيها : تفكيرنا و سلوك حياتنا يقومان على افتراضات خاصّة . و في زمن التغيرات الكبرى، يجدر بنا امتحان تلك الافتراضات، و التحقّق من مدى اتّفاقها مع الواقع الجديد لحياتنا .. هذه الافتراضات غالبا ما نأخذها مأخذ التسليم، في تنظيمنا لعملنا، و علاقاتنا مع الآخرين، أو في الأساس الذي يقوم عليه التزامنا السياسي أو العقائدي .
الانتباه إلى السياق الذي تنبع منه الافتراضات : عندما نرصد هذه الافتراضات، نصبح أكثر إدراكا لتأثير السياق الذي تنبع منه تلك الافتراضات، فجميع ممارساتنا و أفكارنا و ترتيباتنا الاجتماعية، لا تكون بلا سياق .
تصوّر و امتحان البدائل : عند رصد الافتراضات غير المناسبة، يساعد التفكير الناقد على اكتشاف و امتحان طرق جديدة للتفكير و التصرّف، و على الوعي بالسياق الذي تخرج منه الافتراضات .

ثانيا ـ التفكير الابتكاري :
التفكير الابتكاري، هو الذي يتيح لنا الوصول إلى البدائل و الطرق الجديدة، و يسمح لنا بالخروج من سيطرة مسارات التفكير النابعة من أوضاع سابقة، والتي لا تناسب الواقع الجديد . و هنا نتحدّث عمّا يتجاوز ما اعتدنا الحديث عنه من ابتكار أدبي أو فنّي، إلى الابتكار المنظّم، بآلياته المحددة المختلفة، التي تتيح للعقل البشري أن يتحرر من أسر العادة . و هو الابتكار الذي يسود مجال العمل العقلي، الذي تكون له الغلبة في مجتمع المعلومات .
و التفكير الابتكاري، هو طوق النجاة، عندما نفشل في الوصول إلى حلول نعتمد فيها على جمع المعلومات و معالجتها، و تسليط المنطق التقليدي عليها . و هو الوسيلة إلى استشراف المستقبل .

* * *

المنهج العلمي في استشراف المستقبل :
أوّلا ـ الاستفادة من دراسة مرحلة التحوّل من الزراعة إلى الصناعة :
كما أشرنا من قبل، نستفيد اليوم كثيرا في فهم طبيعة التحوّل الهائل الذي يطرأ على حياة البشر، من دراسة دقائق ما حدث ـ من قبل ـ عند انتقالنا من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة .
اليوم .. بإمكاننا أن نتكلّم بثقة عن أسس الحياة في مجتمع الصناعة، و اختلافاتها عن الأسس التي مضت
وفقا لها حياة البشر، على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة . يمكننا أن نتعرّف على المبادئ التي صاغت حياة البشر في عصر الصناعة، في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .
دراسة ذلك التاريخ تفيدنا كثيرا في :
رصد المبادئ الأساسية التي قام عليها عصر الصناعة، (1) مثل النمطية و التوحيد القياسي لكل شيء، (2) و الالتزام بالتخصص الضيّق، (3) و المركزية الشديدة التي قادت إلى سيادة النظم البيروقراطية الكبرى، (4) و عشق الضخامة والسعي إلى النهايات العظمى .. إلى آخر ذلك .
كيف سيطرت تلك المبادئ على كلّ شيء في حياة البشر خلال عصر الصناعة، و كانت وراء الفلسفة التي صاغت نظم عصر الصناعة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. و كانت وراء ترتيبات العمل في المصانع و المكاتب، و نظم التعليم الجماهيرية، و المبادئ الإدارية التي تحكم تشكّل كل شيء في الحياة، الأسرة و المدرسة و الإعلام الجماهيري، و الممارسة الديموقراطية .. والتي جاءت جميعا على صورة المصنع، الذي انبهر به المفكرون و المنظّرون في ذلك العصر .
و الانتباه إلى أثر التكنولوجيا الابتكارية السائدة في تشكيل حياة البشر و النظم التي تحكمهم ( و هو أساس رؤيتنا لعصر الزراعة، و عصر الصناعة، و عصر المعلومات .. و الاختلافات الجذرية في الأسس التي تحكم هذه العصور ) .
ثانيا ـ صياغة الرؤية المستقبلية الشاملة :
بداية، يجب التفريق بين الأحلام و الأماني و متطلبات الأيديولوجيات و العقائد، و بين الرصد العلمي لحركة الحياة البشرية، و النظم التي تحكمها في كل مرحلة من المراحل . التغيير الحقيقي و الأساسي هو الذي يستفيد من المسار الطبيعي لحركة التاريخ البشري ( مثال : ظلّ نظام الرق و العبودية سائدا في حياة البشر، طوال عصر الزراعة، رغم صيحات المفكّرين و إبداعات الفنانين، و انتفاضات الثائرين، باعتباره عنصرا طبيعيا في حياة الزراعة .. و لم يصل إلى نهايته إلاّ بقيام الثورة الصناعية التي لم يكن نظامها يحتاج إلى تملّك جسد العامل ) .
و الرؤية المستقبلية التي نطرحها ليست عقيدة أو قدر، لكنها أشبه بما تقدمه الأرصاد الجوية . إذا كان في انتظارنا عاصفة رعدية قوية، نعدّل نشاطنا بما يتّفق مع ذلك . كذلك إذا أفادت الرؤية المستقبلية أننا ننتقل من المركزية إلى اللامركزية، يكون علينا أن نستفيد من ذلك و لا نفكّر في مقاومته .
ثالثا ـ خطوات التوصّل إلى الرؤية المستقبلية :
(1) مؤشرات التغيير الأساسية في حياة البشر . و بصفة خاصة المؤشرات متزايدة التأثير . و من بين المؤشرات التي تسود المجتمعات التي يتزايد اعتمادها على التكنولوجيات الابتكارية المعلوماتية، توصّل الدارسون و المفكرون إلى مؤشرات أساسية باقية . مثال ذلك : التحـوّل من التكنولوجيات
الصناعية الغليظة إلى التكنولوجيات الرقمية، و التحوّل من الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد العالمي، و من المركزية إلى اللامركزية، و من التخطيط قصير المدى إلى التخطيط طويل المدى، و من التنظيم البيروقراطي إلى التنظيم الشبكي، و من النمطي و الجماهيري إلى المتنوّع و الفردي .. إلى آخر ذلك .
(2) بعد رصد المؤشرات الأساسية للتغيير، ندرس التأثيرات المتبادلة بين هذه التغييرات، لنتعرّف من ذلك على جوانب من المبادئ التي تحكم المجتمع الذي تمضي إليه لبشرية .
(3) هذه المبادئ في علاقاتها ترسم الرؤية المستقبلية للمجتمع الذي نمضي إليه، و التي تحدد أسسه المجتمعية الخاصّة .

* * *

الرؤية المستقبلية لمصر

الرؤية المستقبلية لمصر تتأسس على أمرين :
1 ـ استكمال الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات .
2 ـ تحديد الخريطة الحضارية لمصر .
لقد طرحنا فكرة عن السبيل إلى صياغة الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، يبقى بعد ذلك أن نرسم ما يمكن أن نطلق عليه الخريطة الحضارية لمصر، و نعني بذلك :
ما هي نسبة الذين ما زالوا يمضون في حياتهم وفق القيم الزراعية، التي سادت عصر الزراعة، إلى نسبة الذين يمضون وفق القيم الصناعية، التي سادت عصر الصناعة، إلى نسبة الذين يلتحقون بالقيم الجديدة لعصر المعلومات . و هذا يتوقّف أساسا على مدى شيوع تكنولوجيات المعلومات في حياتنا .
على أساس هذه الخريطة، يمكن أن نضع الاستراتيجيات و الخطط التي نعيد بها بناء مصر لكي تكون قادرة على اللحاق بركب التطوّر العالمي، و الدخول إلى واقع مجتمع المعلومات ... و بحيث لا تقود اجتهادات حلّ المشاكل الراهنة إلى خلق مشاكل جديدة أكثر خطورة .

ليست هناك تعليقات: