الاثنين، أكتوبر ٠١، ٢٠٠٧

تعليم مختلف .. لعصر مختلف


قبل التفكير في تغيير التعليم
علينا أن نعرف كل شيء عن
إنسان عصر المعلومات

بفضل مجموعة من المفكرين و العلماء ـ من الشرق و الغرب ـ أمكن الوصول إلى رؤية شاملة لمستقبل حياة جديدة للبشر، أطلق عليه في أوّل الأمر مجتمع ما بعد الصناعة . لقد أيقن هؤلاء أننا نمضي إلى نظام جديد للحياة، يختلف كثيرا عن نظامي الحياة الزراعية و الصناعية . و اكتشفوا أن النظم التي نجحت في عصر الصناعة، لن يكتب لها النجاح في النظام الجديد الذي يقوم على أسس و مبادئ تختلف كثيرا عن نظيراتها في عصر الصناعة
من واقع دراسة المجتمع الجديد، اتّفق الجميع على تسميته بمجتمع المعلومات، باعتبار أن المعلومات هي رأس المال الأهم فيه . و دون الدخول هنا في العوامل التي قادت إلى انقضاء عصر الصناعة، و سيادة عصر المعلومات، سنركّز على بعض التحوّلات الأساسية، التي تتيح لنا التعرّف على أسس التعليم الجديد
(1) من النمطية و الجماهيرية إلى التنوّع و التباين و احترام
(2) من المركزية إلى اللامركزية و النظام الشبك
(3)من العمل الجسدي إلى العمل العقلي و المعرفي
، (4) من الديموقراطية النيابية إلى ديموقراطية المشاركة
، (5) من التزامن المحكم، إلى الزمن المتكيّف،
(6) من التعليم النمطي، إلى التعليم الذاتي المستمر،
(7) من التخطيط قصير المدى، إلى الرؤية المستقبلية
، (8) من التخصّص الضيّق، إلى المعرفة الشاملة،
(9) من السعي إلى الضخامة و النهايات العظمى، إلى شعار الصغير أجمل .

إنسان عصر المعلومات


و لكي نتعرّف على النظم التعليمية الجديدة في مجتمع المعلومات، يجب أن نحدد مواصفات الإنسان المنسجم مع الحياة في عصر المعلومات، و الذي يستطيع الاستفادة من كلّ ما تتيحه الحياة في مجتمع المعلومات، ثم نبني على ذلك الأسس الجديدة للنظم التعليمية في هذا المجتمع
التعرّف على خصائص إنسان مجتمع المعلومات، يفيدنا في تحديد أسس التعليم التي تتيح تحقّق أعلى نسبة من هذه الخصائص . و هو يفيدنا أيضا في تحديد أسس العديد من مجالات نشاطنا المستقبلية، في الإدارة، و الممارسة الديموقراطية، إلى آخر ذلك

إنسان عصر المعلومات ـ دون الدخول حاليا في الشروح المطوّلة ـ له صفاته المحددة التي تختلف عن صفات إنسان عصر الصناعة، أو الزراعة، و التي من أهمّها أنّه

متفرّد، و غير نمطي
بعد انقضاء جدوى النمطية التي أشاعها عصر الصناعة، و نتيجة لتدفّق المعلومات و المعارف، يصبح إنسان مجتمع المعلومات أكثر حرصا على تفرّده و ذاتيته، و لا يرضى أن يكون صورة مكرّرة
للآخرين، قادرا على التعامل مع التكنولوجيات المعلوماتية التي تساعده على الاستفادة من تدفّق المعلومات، و الاستفادة منها
قادر على تحصيل المعارف ذاتيا، و بشكل دائم
مع تسارع المعلومات، و التغيرات التي تطرأ على المعارف، يستحيل أن يكتفي الفرد بتحصيل معارفه عند عمر معيّن، أو عند انتقاله من الدراسة إلى العمل، الأمر الذي كان سائدا في عصر الصناعة، لذلك فإن إنسان المستقبل يؤمن بأن الحياة عبارة عن سلسلة متعاقبة من التعليم و التدريب و العمل، ثم المزيد من التعليم، و إعادة التدريب . و هذا يقتضي أن يكون إنسان المستقبل مستعدا ـ في نفس الوقت ـ للاعتماد على نفسه، في ملاحقة المعلومات المستجدة، و ما يطرأ على العلوم و المعارف من تغيّرات، مستخدما التكنولوجيات المعلوماتية التي أصبحت متاحة للجميع، كالكمبيوتر و الإنترنيت ممارس للتفكير الناقد، قادر على الابتكار

مع تغيّر أسس الحياة جذريا، لا يبقى شيء على حاله، و يكون على إنسان مجتمع المعلومات أن يعيد النظر ـ دائما ـ في كل ما استقرّ عليه الرأي من قبل . و التفكير الناقد، يتيح التعرّف على الافتراضات التي قامت عليها الأفكار و النظريات و العقائد، لامتحان مدى استمرار صلاحيتها .. كما أنه يتيح الانتباه إلى السياق الذي نبعت من الأفكار المتداولة، لمعرفة مدى استمرار صلاحية ذلك السياق .. و نتيجة للتحوّل إلى العمل العقلي، أصبح على العامل أن يكون قادرا على : رصد المشكلة في عمله، و التفكير في حلول لها، و انتقاء الحل الأنسب و الأوفق، ثم تطبيق ذلك الحل، و التثبّت من صلاحيته .. هذا يعني أن الابتكار و التفكير الابتكاري أصبح سمة أساسية في نشاط إنسان مجتمع المعلومات
إيجابي، و متعاون

التنظيم الهرمي لتسلسل الرئاسات، الذي هو العمود الفقري للبيروقراطية .. هذا التنظيم الذي
نأخذ به، رغم تناقضه مع احتياجات عصر المعلومات، كان يفرض على الفرد أن ينفّذ التعليمات الصادرة إليه من المستويات الأعلى منفردا ..لكن التنظيمات الإدارية الجديدة للعمل، على امتداد العالم المتطور، تحوّلت إلى تنظيمات جديدة، تعتمد على هبوط نسبة كبيرة من مسئولية اتخاذ القرار، التي كانت تنفرد بها القيادة، إلى الوحدات القاعدية، متكاملة الخبرات، شبه مستقلة الأداء، حرّة الحركة تجرى اتصالاتها في جميع الاتجاهات . لهذا يجب أن يكون إنسان المستقبل إيجابيا، قادرا على المبادرة و على التفكير الخلاّق عند اتخاذ القرارات المتصلة بعمله، ناجحا في التعاون مع غيره من أفراد مجموعته، و مع المجموعات الأخرى، داخل مؤسسته و خارجها

معتزّ بعقيدته، محترم لعقائد الآخرين

مع اندفاع ثورة المعلومات، و التنوّع الكبير الذي سيطال البشر، إنسان مجتمع المعلومات لا يخجل من أفكاره و عقائده، الناتجة عن جهده في التفكير الناقد، معتزّا باختلافه عن الآخرين، و هو في نفس
الوقت يحترم عقائد الآخرين، و لا يحاول أن يفرض عليهم عقيدته

تعليم عصر المعلومات


إذا كانت هذه هي خصائص إنسان عصر المعلومات، فما هو نوع التعليم الذي يصلح له و لمجتمعه؟

وفقا لخصائص إنسان عصر المعلومات التي أوردناها في الرسالة السابقة،يمكننا أن نستنبط طبيعة التعليم التي تناسب هذا العصر .. و هذا الإنسان .. و التي تشير إلى
· تعليم يساعد على التفرّد، و يناهض القولبة، و محاولة جعل الأفراد آحادا متراصة متشابهة .
· تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير و الابتكار، و يحارب التبعية النمطية و التلقين .
· تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات و المعارف، بلا قيود أو وصاية .
· تعليم يناهض كل ما هو جماهيري، من رواسب نظم عصر الصناعة، و يحترم الفروق بين الأفراد
تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، و يحترم التنوّع الشديد الذي استحدثه تدفّق المعلومات و المعارف في عقائد البشر و توجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له و للآخرين

مع دخول الكمبيوتر، و الإدارة الرقمية، و الروبوت، إلى المصنع و المكتب، يقتضي الأمر الاعتماد على نظام تعليمية جديدة، تختلف كثيرا عمّا نأخذ به، من بينها التالي
( 1 ) من التلقين، إلى التفكير و الابتكار

الكمبيوتر و الروبوت نجح في تولّي معظم الأعمال الروتينية في المصنع و المكتب، و بشكل متفوّق عن الأداء البشري، فلم يبق للبشر سوى العمل العقـلي أو المعـرفي، الذي يقتضي التفكـير، و القدرة على حل المشاكل، بالبحثّ عن بدائل الحلول، و اختيار الحل الأوفق للظروف، ثم تطبيقه و متابعة أدائه . و هذا هو التحوّل الأساسي في النظام التعليمي المناسب لعصر المعلومات . من تعليم يقف عند حد تلقين المعلومات المحدودة، إلى تعليم يشجّع على التفكير، و البحث عن الحلول، و يحض على الابتكار و الإبداع . نحن ننتقل من تعليم عصر الصناعة الذي كان يعمد إلى تلقين التلاميذ، و حشو رؤوسهم بشتات المعلومات، و بعض التقنيات، إلى تعليم يستهدف خلق المعارف و التدريب المتواصل
( 2 ) بيئة تعليمية مفتوحة
ستتحوّل البيئة التعليمية المغلقة الحالية، إلى بيئة تعليمية مفتوحة، تعتمد على شبكات المعرفة الإلكترونية، التي تعطي أهمية أكبر للقدرات الشخصية . البيئة التعليمية الجديدة، تنهي احتكار المدرسة للعملية التعليمية، و تفتح الباب أمام ممارسة التعليم في البيوت، و في المؤسسات الاقتصادية التي ستتكفّل بجانب منه .
( 3 ) من التعليم النمطي، إلى الشخصي
النظام التقليدي النمطي الجماهيري، النابع من عقلية و احتياجات عصر الصناعة، يحل محلّه نظام جديد يقوم على أساس اعتبار قدرة الفرد و اختياراته . و هذا يعني أنّه في مكان نظام التعليم الحالي، الذي يجري تقسيمه على أساس الأعمار، يقوم نظام جديد يسمح لقدرات الأفراد بالتقدّم إلى مستويات متقدّمة، بصرف النظر عن العمر
( 4 ) التعليم على مدى الحياة
التعـليم العام لعصر الصناعة يقوم على تعليم إجباري، بالإضافة إلى فرص قليلة للتعليم الأعلى و الحرفي . و كان التعليم ينتهي عادة بالحصول على شهادة أتمام الدراسة، التي تؤهّل لدخول الوظائف و مجالات العمل
مع تسارع المعلومات و المعارف، و تغيّر النظريات، و هبوط علوم و صعود علوم جديدة، تنشأ ضرورة اعتماد الدارس، أيا كان عمره، على التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة، لمتابعة ما يحدث بشكل عام، و في فرع تخصّصه بشكل خاص . و هذا يجعل تعليم عصر المعلومات عملية ممتدة على مدى حياة الفرد

( 5 ) التعليم الذاتي

يساعد على التعليم الدائم المتواصل، مبدأ التعليم الذاتي الذي يأخذ به عصر المعلومات . و هو ما يوفّره الكمبيوتر، و غير ذلك من التكنولوجيات الإلكترونية . لقد أصبح بإمكان الفرد أن يعلّم نفسه، على مدى مراحل عمره، اعتمادا على البرامج التعليمية الخاصّة بالكمبيوتر، الذي يقوم باختبار الدارس، عند مراحل معينة، للتثبّت من استيعابه، تمهيدا لإعادة الدرس، أو الانتقال إلى الدرس التالي

* * *

ماذا يعني هذا كلّه ؟.. يعني أساسا تعليميا مختلفا في كل شيء عن الذي أخذناـ و ما زلنا نأخذـ به .. بالنسبة لمكان التعليم و طرقه و المشرفين عليه و امتحاناته وأهدافه ..ثم يعني قبل كلّ شيء الاحتياج الحقيقي لفهم معنى كلّ من التفكير الناقد و التفكير الابتكاري.. و هو ما سنحاول طرحه ـ باختصار ـ في الرسائل التالية

ليست هناك تعليقات: